الدكتور محمد آل ملحم بين الظبية والمها


الدكتور محمد آل ملحم بين الظبية والمها


قرأتُ ما كتبه الدكتور "محمد بن عبداللطيف آل ملحم" عن مقصورة (ابن دريد) تحت عنوان (من أوراقي المبعثرة : لمحات عابرة) في جريدة "اليوم" يوم الخميس 14/11/1421هـ والتي مطلعها يبدأ بقوله:

يَـا ظَبْيَةً أَشْبَهَ شَيْءٍ بِالْمَهَـا            تَرْعَى الْخُزَامَى بَيْنَ أَشْجَارِ النَّقَا

وهي قصيدةٌ عصماءُ تضمنت أمثالاً وحكمًا ومواعظ. من أجل ذلك اعتنى بها العلماء، والمربون، وأهل الأدب، وقرَّروا حفظها في المدارس والمعاهد الأزهرية، وفي المعاهد العلمية في المملكة،. وحفظها مشائخنا ومشائخ مشائخنا. وقد كانت مقررةً علينا في المعهد العلمي، وحفظناها وأنسنا بها، وهي كما رأيت شَرَحَهَا عددٌ ليس بالقليل من فحول العلماء والأدباء، وقد ذكر المحقق منهم خمسة وأربعين شارحًا. من هؤلاء الشُّراح العالم العلامة "محمد بن خليل الأحسائي" القاضى المتوفى سنة 1044هـ، وترجمته في خلاصة المحبي، وإسم شرحه ( الوسيلة الأحمدية في شرح المقصورة الدرديرية) في مكتبة "سوهاج" تحت رقم 268، وهي كما قال شارحها "ابن هشام" رحمه الله (فإنني لما رأيت كثيرًا من أهل الأدب الناسلين إليه من كل صوب من أدباء زماننا، والمنتحلين هذه الصناعة في أواننا قد صَرَفُوا إلى مقصورة "أبي بكر بن دريد" رحمه الله عنايتهم، واهتمامهم، وجعلوها أمامَهم في اللغة وأمامهم لسهولة ألفاظها، ونبل أغراضها، وثقة منشئها، واستفادة قارئها، واشتمالها على نحو الثلث من المقصور، واحتوائها على جزء من اللغة كبير، ولما ضمَّنها من المثل السائر، والخبر النادر، والمواعظ الحسنة، والحكم البالغة البينة، وقد عارضه فيها جماعةٌ من الشعراء فما شقوا غباره، ولا بلغوا مضماره، وهو رحمه الله عند أهل الآداب والراسخين في هذا الباب أشعر العلماء وأعلم الشعراء ألخ …
فمن الحكم:

إِنَّ الْجَدِيدَيْنِ إِذَا مَا اسْتَوْلَيَا …. عَلَى جَدِيـدٍ أَدْنَيَاهُ لِلْبَلَـى

والجديدان: الليل والنهار.

مَا كُنْتُ أَدْرِي والزَّمَانُ مُوَلَّعٌ …… لِشَتٍ مَلْمُومٍ وَتَنْكِيثِ قُوَى
هَلْ أَنَا بِدْعٌ مِنْ عَرَانِينَ عُـلاَ …… جَارَ عَلَيهِمْ حَرْفُ دَهْرٍ وَاعْتَدَى
وَصَوْنُ عَرْضِ الْمَرْءِ أَنْ يَبْذُلَ مَا ….. ضُنَّ بِهِ مِمَّا حَوَاهُ وانْتَصَى.
وَالنَّاسُ كَالنَّبْتِ فَمِنْهُ رَائِقٌ …… غَضٌّ نَضِيرٌ عُودُهُ مُرُّ الْجَنَى
وَالشَّيْخُ إِنْ قَوَّمْتَهُ مِنْ زَيْغِهِ …… فَيَسْتَوي مَا انْعاجَ مِنْهُ وانْحَنَى
كَذَلِكَ الغُصْنُ يَسِيرٌ عَطْفُهُ …… لَدْنًا شَدِيدٌ غَمْزُهُ إذَا عَسَا
وَمَنْ ظَلَمَ النَّاسَ تحَاشُو ظُلْمَهُ …… وَعَزَّ فِيهِمْ جَانِبَاهُ، وَاحْتَمَى
وَالنَّاسُ كُلاً إِنْ فَحَصْتَ عَنْهُمُ …… جَمِيعَ أَقْطارِ الْبِلاَدِ وَالْقُرَى
عَبيدُ ذِي الْمَالِِ وَإِنْ لَمْ يَطْمَعُوا …… مِنْ غمْرِهِ في جُرْعَةٍ تُشْفِي الصَّدَى
لاَ يَنْفَعُ اللُّبُّ بِلاَ جِدٍّ، وَلاَ …… يَحُطُّكَ الْجَهْلُ إِذَا الْجَدُّ عَلاَ
مَنْ عَارَضَ الأَطْمَاعَ بِالْيَأَسِ رَنَتْ …… إِلَيْهِ عَيْنُ الْعِزّ مِنْ حَيْثُ رَنَا
مَنْ لَمْ يَقِفْ عِنْدَ انْتِهَاءِ قَدْرِهِ …… تَقَاصَرَتْ عَنْهُ فُسَيْحَاتِ الْخُطَى
مَنْ ضَيَّعَ الْحَزْمَ جَنَى لِنَفْسِهِ …… نَدَامَةً أَلْذَعَ مِنْ سَفْعِ الذَّكَا
وَالنَّاسُ أَلْفٌ مِنْهُمُ كَوَاحِدٍ …… وَواحِدٌ كَالأَلْفِ إِنْ أَمْرٌ عَنَا
وَلِلْفَتَى مِنْ مَالِهِ مَا قَدَّمَتْ …… يَدَاهُ قَبْلَ مَوْتِهِ لاَ مَا اقْتَنَى
وَاللَّوْمُ لِلْحُرِّ مُقِيمٌ رَادِعٌ …… وَالْعَبْدُ لاَ تَرْدَعُهُ إِلاَّ الْعَصَا
وَآفةُ الْعَقْلِ الْهَوَى فَمَنْ عَلاَ …… عَلَى هَوَاهُ عَقْلُهُ فَقَدْ نَجَا
عَوِّلْ عَلَى الصَّبْرِ الْجَمِيلِ إِنَّهُ …… أَمْتَعُ مَا لاَذَ بِهِ أُولُو الْحِجَا
فَالدَّهْرُ يَكْبُو بِالْفَتَى وَتَارَةً …… يُنْهِضُهُ مِنْ عَثْرَةٍ إِذَا كَبَا
لاَ تَعْجَبَنْ مِنْ هَالِكٍ كَيْفَ هَوَى …… بَلْ فَاعْجَبَنْ مِنْ سَالِمٍ كَيْفَ نَجَا
مِنْ كُلِّ مَا نَالَ الْفَتَى قَدْ نِلْتُهُ …… وَالْمَرْءُ يَبْقَى بَعْدَهُ حُسْنُ الثَّنَا
فَإِنْ أَمُتْ فَقَـدْ تَنَاهَـتْ لَذَّتِـي …… وَكُلُّ شَيءٍ بَلَـغَ الْحَـدَّ انْتَهَى

وهي كما ترى مليئة بالحكم، فالذي يقرأها بتأنٍ وتمعنٍ وتأملٍ يخرج بثروةٍ لغويةٍ تمكِّنه من فهم أي نصٍ يمر به. كما نظم الطغرائي "لامية العجم" و"الحريري" أنشأ مقاماته هذه كلها حكم وعبر، وكذلك تكون ثروة لغوية وبلاغية لدى طالب العلم. فالأدب كتبوه لأغراضٍ شريفةٍ ساميةٍ، وليس الأدب للأدب كما روَّج له من رَوَّجَ.

جريدة اليوم 3 / 1  / 1422هـ  العدد 10148