بين عرسين خير الأمور الوسط


بين عرسين خير الأمور الوسط


دعيت إلى عرس في أحد القصور الكبيرة المعدة للأفراح وكان معي صاحبي فرحان, فوجئنا أثناء جلوسنا بجلبة وصخب وأصوات غريبة عن بيئتنا مستوردة نقلتها إلينا مكبرات الصوت مع آلات عزف غطت على الصوت وكنت أحاول فهم بعض عبارات المغنية فلم أستطع فسألت فقيل هذه المغنية فلانة مع فرقتها المشهورة، لا وعليها زحام شديد وتمتاز هذه المغنية بغناء كل ما جد قالوا وكذلك هذه جيء بها من خارج بلاد العرس وقد كلفت مبلغا من المال فقلت في نفسي لو حلفت أن النساء اللاتي يستمعن لها ما يفهمن ما تقول لما حنثت.
قال صاحبي فرحان: لا وأضف إلى ذلك فإنهم قد كتبوا في بطاقات الدعوة ممنوع اصطحاب الأطفال أي الفتيات الصغيرات المميزات.
أخذت مع صاحبي فرحان في الحديث وفي كل ثانية يقول هذا القادم فلان وهذه الشخصية فلان وهذا الوجيه فلان وأنا أنظر لعقارب الساعة تجري حتى وصلت إلى ما بعد منتصف الليل حينما تعبت وتعب صاحبي من الحديث فلم يبق شيء لم نتحدث فيه حتى مل الكلام منا.
وتخيل معي أننا خلال هذه الفترة نشرب ماء وبنا وشايا فإن الله لا يستحي من الحق القارئ يعرف الحال.
بعدها دعينا إلى العشاء فرأينا من الإسراف ما الله به عليم، وبعد خروجنا من العرس قال صاحبي فرحان: ما شاء الله القوم كرماء وأعلنوا النكاح.
فافترقنا ولم أتمكن من إجابته ومناقشة ما ذكره، لأننا في الليلة التي بعدها كنا مدعوين إلى عرس وقد نعتوا لنا المكان فلما أقبلنا سألنا عن مكان العرس فقيل هذا المخيم المقابل.
فقال فرحان: لا تعجل ليس عليه علامة فرح ولكني أمسكت بيده أن اسكت فدخلنا وسلمنا فلم يرد أحد علينا السلام فأردنا أن نصافح الجالسين فأشار أحدهم اجلسوا فالتفت فوجدت رجلا يتحدث عن الفرح الحقيقي وان هذا لا يسمى فرحاً ثم عرج إلى أهوال يوم القيامة والأسئلة تنهال على المنصة وإذا بالزوج المسكين يتصبب عرقا متأثرا بواعظنا فالتفت إلى صاحبي فرحان وإذا هو قد نام فقلت الحمد لله هذا فضل من الله نحن دعينا إلى فرح وصاحبي فرحان لكن الحال حال حزن فلو لم يكن صاحبي فرحان نائماً لصار ما لم تحمد عقباه لانه كما ذكر المناطقة والأصوليون الضدان لا يجتمعان فرح وحزن لا يجتمع حزن وفرح.
وفي أثناء جلوسنا والكآبة بدت تظهر على وجهي وإذا بي أسمع همساً عند بعض الجالسين فلم أعره اهتمامي عندما استيقظ فرحان وسمع ما دار في هذا الهمس وإذا به يقول لي: فهمت خلاصة ما دار بين الرجلين.
قلت: وما الذي دار؟
قال: إن النساء في الداخل أصبحن في حالة لا يحسدن عليها فإنهن استمعن لكلام الواعظ وهن في زينتهن المعروفة فأخذن يجهشن بالبكاء حتى اختلط الكحل بالأصباغ التي في الوجه وسال الجميع على النحور والصدور (المكياج).
فقالت إحداهن: ألسنا مدعوات في عرس؟
قالت صاحبة الدعوة المسكينة المغلوبة على أمرها: نعم، ولكنه عرس إسلامي.
قالت المدعوة: إذاً وأين الدفافة (التي تضرب على الدف)؟
قالت صاحبة الدعوة: حين ينتهي الشيخ من خطبته.
وبعد قليل دخلت بعض الفتيات وجلسن يرددن كلمات بعيدة عن جو الزواج أشبه ما تكون بالاناشيد المكسرة من حيث اللغة فيها دعوة إلى جهاد النفس.
لا أكتمكم الحقيقة نمت تلك الليلة قلقا لم أهضم طعامي وتذكرت عرس الليلة الماضية وعرس هذه الليلة هل ذاك الذي فيه إعلان النكاح ولكنه بإسراف، خرج عن الحد أم هذا الذي حول العرس إلى عزاء وبكاء فأي العرسين أقرب إلى السنة؟
التقيت في اليوم الثاني بأخي فرحان وقال لي : ما رأيك في العرسين؟
قلت: التمسك بالشرع لا يأتي إلا بخير والعمل بالسنة المطهرة هو النجاة بلا إفراط ولا تفريط فما سنه المصطفى صلى الله عليه وسلم هو الخير والبركة وما خرج عنه فهو خروج وتشويه فخير الأمور أوسطها.
قال فرحان: أي العرسين أصوب؟
قلت: لا هذا ولا ذاك يا أخي فرحان، السنة إعلان النكاح والضرب عليه بالدف ويكون الغناء متضمنا غزلاً عفيفا.
فقد روى البخاري في صحيحه عن عائشة أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة ما كان معكم لهو، فإن الأنصار يعجبهم اللهو, قال الحافظ في الفتح شرح البخاري قوله (ما كان معكم لهو) في رواية شريك فقال فهل بعثتم معها جارية تضرب بالدف وتغني؟ قلت: تقول ماذا؟ قال: تقول:

أتيناكم أتيناكم
                فحيانا وحياكم
ولولا الذهب
                 الأحمر ما حلت بواديكم
ولولا الحنطة السمراء
                ما سمنت عذاريكم


قوله: فإن الأنصار يعجبهم اللهو في حديث ابن عباس وجابر قوم فيهم غزل إلخ,.
وعن عامر بن عبدالله بن الزبير عن أبيه رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أعلنوا النكاح رواه أحمد وصححه الحاكم، قال في شرح بلوغ المرام، الإعلان هو خلاف الإسرار وقد دلت الأحاديث على الأمر بإعلان النكاح وعلى الأمر بضرب الغربال لأن ضرب الدف أبلغ في الإعلان.
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله: إعلان النكاح بالدف سنة وفيه مصلحة لا تخفى فهو مشروع لإظهار النكاح.
قال الشيخ عبدالرحمن بن محمد بن قاسم رحمه الله: ففي هذه الأحاديث وما في معناها الندب على إعلان النكاح بالدف وبالغناء المباح.
وفي الصحيح لما رأى نساء وصبياناً جاءوا من عرس قال: إنكم من أحب الناس إلي, انتهى.
قال في كشاف القناع: ولا بأس بالغزل في العرس,, إلخ.
قال الإمام أحمد: لا بأس بالغزل في العرس.
لقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار أتيناكم أتيناكم,, إلخ .
وقال أحمد أيضاً: يستحب الدف والصوت المباح في الاملاك فقيل له: ما الصوت؟ قال: يتكلم ويتحدث ويظهر.
والأصل في هذا ما روى محمد بن حاطب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فصل ما بين الحلال والحرام الصوت والدف في النكاح) رواه النسائي.
وقال صلى الله عليه وسلم (أعلنوا النكاح) وفي لفظ: (أظهروا النكاح) وكان يحب أن يضرب عليه بالدف وفي لفظ: واضربوا عليه بالغربال.
قال سماحة مفتي عام المملكة شيخنا محدث العصر الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: أما الزواج فيشرع فيه ضرب الدف مع الغناء المعتاد الذي ليس فيه دعوة إلى محرم ولا مدح لمحرم في وقت من الليل للنساء خاصة لإعلان النكاح والفرق بينه وبين السفاح كما صحت السنة بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال في كتاب منهج السنة في الزواج: وحيناً آخر يزف إليه عليه الصلاة والسلام نبأ زفاف إحدى الصحابيات الجليلات فيبدي اهتمامه الكبير بتكامل عناصر السرور والإيناس في هذه المناسبات فيسأل عن عناصر الغناء ولا يرى بأسا ان يتحدث عنه بعنوان اللهو، ليزيل من الأوهام ما عسى ان يظن من حرمه الغناء في مثل هذا الأمر، ثم ليلفت الأنظار إلى إسهام الغناء وما إليه في إعلان النكاح وإبعاد العلاقة بين الزوجين عدا ان تكون سفاحاً أو حراماً.
قال أستاذنا الشيخ صالح آل فوزان سلمه الله: ويسن إعلان النكاح أي إظهاره وإشاعته لقوله صلى الله عليه وسلم: (أعلنوا النكاح، وفي لفظ أظهروا النكاح) رواه ابن ماجه.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: (فصل ما بين الحلال والحرام الصوت والدف في النكاح) رواه النسائي وأحمد والترمذي وحسنه.
قال صاحبي فرحان: جزاك الله خيراً لقد أثلجت صدري فالسنة إعلان النكاح ولكن لا على طريقة المسرفين ولا على طريقة الآخرين فإن التوسع فيه خروج عن السنة وعدم الإعلان وقلبه حزناً خروج عن السنة فخير الأمور الوسط قال الله تعالى: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين .

 

    محمد بن عبدالرحمن آل إسماعيل