تجربة والدي مع الحسبة


تجربة والدي مع الحسبة


تجربة والدي مع الحسبة
 
كانت الحِسبة أو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأحساء احتساباً أي عملاً تطوعياً يقوم عدد من الرجال ثم صدر الأمر السامي بتشكيل إدارات رسمية وأظنه في أول السبعينات هجرية بين عامي 1366 – 1370 هـ وصدر أمر أمير الأحساء أو المقاطعة آنذاك الأمير سعود بن جلوي رحمه الله وبمشورة قاضي الأحساء الشيخ سليمان بن عبدالرحمن العمري رحمه الله تضمن أمر سموه بتعيين الشيخ سعود بن درعان الحامد داخل الأسوار أعنى داخل المدينة لأن الهفوف تشمل الأحياء التالية الكوت والنعاثل والرفعة فهذه محاطة بأسوار ولها بوابات تسمى دراويز فهذه عين فيها الشيخ سعود بن درعان أمَّا والدي فقد كلف إن صح التعبير بالمنطقة الحرة أعنى خارج الأسوار ما يسمى بالرقيقة والعدوة والحفيرة وحي المطار وما قاربها بما في ذلك نخيل السيفه والرقيقة فذهب والدي إلى الشيخ سليمان العمري وقال له ما رأيك الأمير كلفني بما فيه مشقة فرد الشيخ أنت تعرف أن الأمير سعوداً ما اختارك إلاَّ أنه يعرف قوتك وحكمتك ولا أظنه يتراجع ولكن استعن بالله وتوكل عليه.
          وتخيل أخي القارئ ليس للحسبة نظام ولا تعاليم ومع ذلك فهم يسجنون ويجلدون لهم صلاحية كاملة فما كان من والدي إلاَّ أن اتصل بشيوخ القبائل والعمد من أصحاب الرأي والمشورة واختار عدداً من الرجال امتازوا بالقوة والصلابة والشدة مع الرزانة والحكمة والعقل اختار رجالاً أثقل من الجبال الرواسي لهم مكانتهم ومقبولون فاختار من كل قبيلة من عتيبة ومن قحطان ومن الدواسر ومن العجمان ورتبهم ترتيباً ليس له نظير وبعث روح التنافس الشريف بين القبائل فسددوا وقاربوا ونصحوا من يستحق النصيحة وهددوا من يستحق التهديد وساروا في الناس سيرة حسنة تقوم على النصح والإرشاد والستر ما استطاعوا إلى ذلك فحازوا على احترام الناس لهم ومحبتهم وحفظوا أسرار الناس ولم يفضحوا عاصياً ولم يكشفوا ستراً وكانوا في جولاتهم المستمرة ليل نهار على أقدامهم حيث لم تكن عندهم سيارات فكلهم يلبسون البشوت فكنت أخرج معهم حين كنت صغيراً وكنت معجباً بهم وبرزانتهم فإذا رأوا ما لا يجوز السكوت عليه أخذوا الرجل إلى والدي ثم أخذ يعدد محاسن جماعته وحسن سمعتهم وإننا لا نرضى أن نجعلك محل شماتة من الجيران أو من قبيلة أخرى فإذا تمادى هذا الرجل ولم يتعظ اتصلوا بكبار جماعته أو رئيس القبيلة وأخبروه فعندها ينتهي كل شيء فإذا لم يفد هذا ولا هذا أخذوه وأدبوه في بيت كبير أسرته الأدب اللائق وهذا نادر جداً أمَّا النساء فلا أذكر أنهم كشفوا ستر امرأة ولمَّا سألت والدي رحمه الله قال النساء إذا افتضحت واحدة فسوف يؤثر هذا على بناتها وعماتها وخالاتها وقريباتها كالبولة تنتشر بصب الماء عليها ثم يحصل من الفساد ما هو أشد من إنكارنا للمنكر ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح وما كانوا يبحثون عن المستور ولا عما في داخل البيوت وما كانوا يتحدثون بما يعملون لأنَّ حديثهم بعملهم منكر ولا يقولون قمنا ولا عملنا وقد مضى والدي رحمه الله زمناً على هذا حتى مرض على فراشه فكان هؤلاء الأخيار الذين أحبهم وأحبوه يأتون إليه ويجلسون على فراشه ويقولون وعلى فطرتهم يا عبدالرحمن ليت الذي فيك فينا يا عبدالرحمن جمعت شملنا وسترت عورتنا ونصحت لنا.
ولا أذكر والله أنهم جلدوا واحداً إلاَّ شاباً من أبناء الوجهاء الأحسائين هذا في عام 1380 هـ لعله اغتر بمركز والده ولمَّا جاء رجال الحسبة وهو يلعب بالكرة وقالوا صل يا فلان فما كان منه إلاَّ تلفظ بألفاظ نابية مما جعل الشباب يضحكون عندها صمم والدي على تأديبه رداً لكرامة هؤلاء الرجال المخلصين فما بقي أحد من الرجال إلاَّ وتوسط لدى والدي ولكن والدي تمسك برأيه وفعلاً جيء بالشاب وضرب قرب قصر خزام.
          أمَّا أعمال الحسبة في عهد والدي فكانت تشمل صيانة المقابر عن طمع الطامعين ومتابعة الغش التجاري والتلاعب بالموازين والمكاييل.
وأذكر أنَّ امرأة انتقدت في سلوكها فلما ذهب بعض رجال الحسبة إلى منزلها جاء بعدهم مباشرة رجال من الحسبة وقالوا لهم هذه المرأة لا نعرف عنها إلاَّ كل خير ولا يمكن أن تتصرف تصرفاً يخل بالسلوك ثم لما ذهب الفريق الأول قال لها الآخرون يا امرأة نحن نعلم بصحة ما قيل فيك ولكن أردنا لعل الله يصلح من شأنك وكانت هذه الحركات كلها باتفاق بين رجال الحسبة.
          وفي إحدى المرات قالوا بأن فلانه وفلان انتهى نشاطهم المشبوه فاقترح رجل قاصر النظر وقال لماذا لا نختبرهم فما كان من والدي إلاَّ أن غضب وقال هذا هو المنكر ذاته الناس ليسوا معصومين من الخطأ فمهما كان الإنسان فإنه ضعيف فكيف نهيء له جو الفساد ونوقعه فيه ونقول بأننا أوقعنا به هذا عمل يتنافى مع عمل الحسبة هل ندعوا الناس إلى الوقوع في المعصية ونهيء الجو ثم نلقي القبض عليهم لا هذا لا يجوز لا يجوز ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما خلا رجل وامرأة إلاَّ كان الشيطان ثالثهما)) فلم يعين شخصاً ولم يستثن شخصاً ولا يجوز أن نعمل كميناً فنكون عونا للشيطان عليهم لا بل ننصح ونحذر حسب استطاعتنا.
          فلمَّا توفي والدي رحمه الله بكاه جمع غفير بل كشف لي بعضهم قال كنا عصاة ومجاهرين ولكن سياسة والدك رحمه الله تسببت في تبدل أحوالنا إلى رجال صالحين.. أقول هذه حكاية والدي مع الحسبة أرويها كما عشتها.
هذا والله من وراء القصد.
 
كتبه خادم أهل العلم

محمد بن عبدالرحمن بن حسين آل إسماعيل

* نشر في جريدة الجزيرة الاربعاء 11 رجب 1431   العدد  13782
Wednesday  23/06/2010 G Issue 13782
http://www.al-jazirah.com/20100623/fe19d.htm