أيام مع سماحة الوالد الشيخ عبدالعزيز بن باز


أيام مع سماحة الوالد الشيخ عبدالعزيز بن باز


حديثي عن سماحة الوالد المربي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن عبدالرحمن آل باز.
          حديثي يختلف عن أي حديث فقد تحدث العلماء والكتاب عن سماحته في الصحف والمجلات وأقدم هؤلاء وألصقهم بالشيخ منذ كان قاضياً للخرج الشيخ العلامة الناسك الورع الشيخ سليمان بن عبدالله آل حماد رحمه الله.
أما العالم الثاني فهو الشيخ الفقيه الأديب نفساً ودرساً راشد بن صالح آل خنين عضو هيئة كبار العلماء والمستشار في الديوان الملكي فهو زميل الشيخ سليمان رحمه الله وتتلمذ على الشيخ في الخرج ولازمه حتى صار ولده البار.
أما الرجل الذي لازم الشيخ في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة وفي الرياض حين انتقل سماحته إلى الرياض فهو الشيخ إبراهيم آل حصين رحمه الله رحمة واسعة وغفر له فهذا الرجل كان كاتب الشيخ الخاص وسكرتيره ومستشاره فهو يتصرف وكأنه يقرأ أفكار الشيخ يتصرف وكأنه يعرف ماذا يريد الشيخ لا تفارقه الابتسامة لا يعرف الغضب والعبوس إليه سبيلاً هادئ الطبع غاية في الاتزان والرزانة تشعر كأن بينك وبينه قرابة كأنه جدك لأبيك أو جدك لأمك عبارته الوحيدة المتكررة والمتميز بها (لبيك) مع كل من يخاطبه أو يحادثه فكان سماحة الوالد رحمه الله يثق به ثقة ليس لها مثيل يأتي الزوار والمراجعون وربما كان سماحته يتوضأ أو يتهيأ لدخول المكتب ولكنك حين تعرض موضوعك على الشيخ إبراهيم رحمه الله فإنه يعتبر منتهياً فهو يبتسم قائلاً لبيك الآن يأتي سماحة الوالد فإذا دخل سماحته عرض عليه الموضوع بطريقة أحسن من عرضك أنت ثم كتب بسرعة فائقة ثم ختمها بعد أن قرأها على سماحته فكأنهما روح واحدة في جسمين هذا الرجل غاية في الترتيب وقمة في التهذيب ملازم لسماحته في البيت وفي الإدارة فهو كل شيء وما اختاره سماحته إلا بعد خبرة طويلة لأنه على نفس الشيخ ولا شك أن موته أثر على نفسية سماحة الشيخ أثراً عميقاً لا يعرفه إلا من لازم سماحته وعرف سماحته ورقته ورفقه ولينه والذي يعرف الشيخ إبراهيم الحصين يقول بأن هذا الرجل لا يمكن أن تكون هذه صفاته لولا أنه أحب سماحته لله وفي الله لا لغرض دنيوي ولا لمصلحة تزول.
          أما جوانب فضائل سماحة الشيخ عبدالعزيز فقد تكلم عنها العلماء كما ذكرت لكن هناك جوانب عشتها أنا: منها أن سماحته يعتبر مرشداً ومربياً فهو حين يأمرني بإعداد بحث أو موضوع فإنه يوجهني ويحيلني إلى المصادر التي أنقل عنها مرتبة بطريقة تفوق طريقة المشرفين على الرسائل العلمية فيقول: اعتمدوا جمع الأحاديث الواردة في الأذكار والأدعية في الصباح والمساء مع الأحاديث الواردة في فضل الذكر من غير تقيد بالصباح والمساء من الكتب الآتية الصحيحين ، السنن الأربع ، ومسند الإمام أحمد بواسطة ترتيب الساعاتي وما كان في الصحيحين كفى العوز إليها. أما ما كان في الكتب الأخرى فإنه ينقل بسنده مع الإشارة إلى الجزء والصفحة حتى تمكن مراجعته والحكم عليه ثم قال: ويمكن بعد الفراغ مما ذكر مراجعة الكتب الأخرى كالموطأ وسنن الدارمي والبيهقي والحاكم إلى أن قال: أعانكم الله على كل خير وبارك في جهودكم..الخ
فانظر كيف أن الشيخ رحمه الله يوجه الباحث الناشئ توجيهاً كاملاً كيف يبحث.
          هذا فقط مثال لتوجيه سماحته وفعلا استفدت فائدة عظيمة في كيفية الرجوع إلى المصادر وكيفية ترتيبها. صورة أخرى لطريقة سماحته في التوجيه والنقد العفيف المخلص البناء اشترى لي الأخ الكريم الفاضل الدكتور شرف بن علي الشريف سلمه الله كتاب (الغنية) تأليف الإمام الشيخ عبدالقادر الجيلاني الحنبلي فأعطى الكتاب سماحة الوالد ولما قدم سماحة الوالد من مكة شرفها الله وكنت قد أتيت الرياض قبله فإذا به يرسل الكتاب المذكور ومعه خطاب رقيق بتاريخ 25/4/1399هـ يقول فيه بعده أخبرني الدكتور شرف بن علي الشريف أنه تحصل لكم على نسخة من الغنية تأليف الشيخ عبدالقادر الجيلاني رحمه الله فآمل تذكيري بها للنظر في إعادة طبعها بعد مراجعتها بارك الله فيكم..الخ.
فهذا نموذج للداعية الناصح النزيه لو كان غير الشيخ عبدالعزيز لقال:هذا الكتاب فيه كذا وفيه كذا ولماذا تشتريه لا بل عنده أناة وصبر وروية كلها تدل على حسن النية.
يحيط بسماحته بعد صلاة العشاء مجموعة من الفضلاء مع فضيلة الشيخ إبراهيم الحصين رحمه الله من هؤلاء فضيلة الدكتور عبدالله بن حافظ حكمي قبل تحضيره الرسالة وفضيلة الدكتور عبدالله بن أحمد آل زيد قبل تحضيره الرسالة وفضيلة الأستاذ محمد آل خريف غفر الله وفضيلة الشيخ عبدالعزيز بن ناصر آل باز عضو مجلس الشورى وكاتب هذه الأسطر مع هذه الكوكبة التي تحيط بسماحته كل شخص موكل إليه عمل هذا في قراءة الكتب وهذا في تحضير البحوث والإجابات وآخر عن الشؤون السرية وآخر عن حاجات الناس والشفاعة لهم وقضاء حاجاتهم وآخر عن المعاملات الرسمية وكان سماحته رحمه الله يدير هذه الكوكبة بدقة متناهية وكان نصيب كاتب هذا المقال تحضير البحوث والقراءة في بعض الكتب من أجل التعليق عليها. فكان سماحته ينتقل من شخص إلى آخر طالباً قراءة ماعنده ثم يملي عليه ما يملي ثم ينتقل إلى الآخر ثم يعود إلى الأول طالبا قراءة ما أملاه عليه إن كان قد انتهى من كتابته ولا يغيب عنه شيء مع دقة في النحو والإملاء ليس لها نظير وقد أقرأ عليه في كتاب ثم تقف القراءة من أجل سفر سماحته ثم يأتي بعد فترة وإذا به يقول: وقفنا في القراءة عند قول كذا من صفحة كذا هذا وهو ممسك بطرف شماغه (ملحفته) باستمرار وكأنه يبرم طرفها ويمتد الحال إلى ما بعد نصف الليل وفي أثناء ذلك فإن الهواتف كلها تعمل وسماحته يجيب عليها بلا ملال هذا يستفتي وهذا يستشفع وهذه الأميرة فلانة تتصل به وتسلم عليه ويرد عليها السلام سائلا عن حالها وعن أولادها أصحاب السمو الأمراء والأميرات واحداً واحداً فهو يسأل عن حال فلان المسافر وفلانة المتزوجة توا ويسأل عن زوجها. وتفاجأ وأنت ترصد سماحته وإذا بالأميرة فلانة تطلب من سماحته نصح ابنها سمو الأمير فلان والآخر لها مدة لم تره فتطلب من سماحته مناصحته وتوجيهه ثم إن الشيخ بدوره يسأل عن فلان المراهق كيف حاله مع الصلاة فتجيبه بكل صراحة فمن خلال سماعك لمكالمات سماحته بالأسرة المالكة يظهر لك مدى ثقة هذه الأسرة بسماحته نساء ورجالاً وكأنه أبوهم أو القيم عليهم ثم يعود بعد المكالمة إلى من وقفت عنده القراءة من الإخوان ثم تأتي مكالمة أخرى من أميرة محسنة تريد توجيه سماحته لها بأن تقوم بعمل خيري بملايين الريالات ثم بعدها تأتي مكالمة من رجل من علية القوم يخبر سماحته بخلاف نشأ بين فلان وفلان ويطلب من سماحته التدخل للإصلاح بينهما فلا يتأخر سماحته إما عن طريق الهاتف أو سيراً بنفسه وكم فتنة طفئت على يد سماحته وهو يحرص في إنفاقه ألا تعلم شماله ما تنفقه يمينه. أما تفريج كربات المسلمين فهذا شيء طبع عليه سماحته فلذته وراحة نفسه في إنفاق المال وفي الشفاعة للمسلمين فالأيتام والأرامل والفقراء داخل البلاد السعودية وفي خارجها يتصلون بسماحته ينفق ما عنده مع أنه ليس عنده ثم إنه يستعين بالله ثم بالكتابة إلى أهل الخير من أصحاب السمو الملكي وغيرهم من المحسنين يذكر لهم يذكر لهم حاجة المحتاجين فلا يتأخرون عن تلبية شفاعته فعندها يتسابقون فعندها يتسابقون لهذا الخير الذي سعى فيه لهم سماحته وهم يعرفون نزاهته وحبه للخير فتجد الملك سلمه الله أصحاب السمو الملكي يستجيبون لسماحته راغبين راضين فرحين بهذا الخير الذي دلهم عليه وهذه تحتاج منا إلى وقفة بل وقفات لا يشكر الله من لا يشكر الناس. فلولا أن الله سخر هؤلاء العلية من القوم للوقوف مع سماحته رحمه الله لما استطاع أن يوصل الخير إلى أهله المحتاجين فهم يقدرونه فيمدونه بالمال وهو الخازن الأمين ويشفعونه إذا شفع فهو بهذا قدوة حسنة وأجدني كثيراً ما أكتب إلى أصحاب السمو الملكي أذكر حاجة المحتاجين فلا أجد إلا الاستجابة والمسابقة إلى الخير من أصحاب السمو الملكي الأمير محمد بن فهد بن عبدالعزيز وصاحب السمو الملكي الأمير سعود بن نايف بن عبدالعزيز نائب أمير المنطقة الشرقية سابقاً فإني كثير الإحالة إليهم وكثير الرفع عن حاجة المحتاجين فلم أجد منهم إلا حباً ومسارعة إلى فعل الخير بلا ضجر ولا منة أذكرها حتى لا نكون جاحدين للمعروف فسماحته رحمه الله ما جمع ديناراً ولا درهماًُ وهذا ما جعله ينال ثقتهم واحترامهم واذكر أني سعيت لديه رحمه الله في حاجات كثير من إخواني فكان يأنس بذلك والسيل حرب للمكان العالي. فكثير من أعمال الخير يعملها ويكتمها وقد حصل كثير عن طريقي منها أنه أمرني بطبع كتاب توجيهات دينية ومناصحات فيما يجب على الراعي والرعية تأليف الشيخ محمد بن إبراهيم آل مبارك رحمه الله وكلفت طباعته خمسين ألف ريال وأذكر أنه طبع على نفقة أحد المحسنين.
          و سماحته من أبعد الناس عن العصبية فقد وزع في عهده كتب المذاهب الأربعة المجموع شرح المهذب عشرون مجلداً في الفقه الشافعي والمدونة والتمهيد والكافي في الفقه المالكي وعمدة القاري وغيرها للعيني الحنفي.
و من سماحته أنه يزور جميع الطوائف فيستقبلهم بالبشر ويستمع منهم ثم يبين لهم بلين ورفق الخطأ الذي وقعوا فيه فكم هدى الله على يديه من قوم. يوجد في العلماء المدرسون والمفتون ويوجد فيهم من يختصه الله بقضاء حوائج الناس وهذه نادرة جداً ويوجد المتفرغون للبحث والتأليف ويوجد الذين مجالسهم مفتوحة لاستقبال الناس ولذا يقول فلان شغله التدريس عن التعليم وذاك شغله التأليف عن لقاء الناس وذاك شغله قضاء حوائج الناس عن العلم ولكن سماحة الشيخ رحمه الله جمع كل الصفات العلم والتأليف والتدريس والإرشاد وقضاء حوائج الناس ومباشرة الوظيفة الرسمية التي تأخذ عليه غالب يومه ثم هو الفقيه المحدث والعالم برجال الحديث في هذا العصر الذي ندر فيه التخصص فهو يحفظ رجال الحديث رجلا رجلا على طريقة السلف الصالح في الجرح والتعديل.

ثم إن مجلسه الذي يزدحم بالناس تلاحظ عليه السكينة والوقار وعدم التمايز بين الجالسين في المقاعد فلا تسمع كلمة نابية ولا تسمع لسماحته صوتاً نابيا،وكل من في مجلسه يرى أن له حقاً في سماحته وهو المتلطف بضيوفه والرفيق لهم يستمع من الكبير والصغير فيجد الناس في مجلسه المتنفس لهم فيشكون له أوضاعهم وأوضاع المسلمين خلفهم وبعد فمشايخنا إن شاء الله فيهم خير كثير وكلهم تحدثوا عن صفات سماحته وأقول ما المانع لهم أن يرثوا هذه الصفات كل على قدر استطاعته هذا يستقبل الناس فلا يغلق مجلسه أمامهم وآخر يشفع للناس ويرفع حاجاتهم إلى القادرين فإن كانت كل الصفات الخيرة اجتمعت في سماحته فما المانع أن توجد متفرقة في الأحياء.

 

 بقلم
خادم أهل العلم

محمد بن عبدالرحمن بن حسين آل إسماعيل

صور من بعض خطابات سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله لخادم أهل العلم