من ابن باز إلى الشثري


من ابن باز إلى الشثري


التواضع نعمة من أعظم نعم الله على عبده وما أدخل إبليس النار إلا تكبره وتعاظمه ولا يتواضع إلاَّ العظماء والكبراء والأسوياء ولا يتكبر ويترفع إلا الناقصون الحمقى الجاهلون ومن فيهم علل نفسية وخلل عقلي وهو النقص المركب والرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((من تواضع لله رفعه الله)) وقال صلى الله عليه وسلم: (( لايدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر)).
والشاعر قال:
           تواضع تكن كالبدر لاح لناظر
                                      على صفحات الماء وهو رفيع
           ولا تك كالدخان يعلو بنفسه
                                      إلى طبقات الجو و هو وضيـع
فالمتواضع عرف ربه بالعظمة فعظمه وعرف نفسه بالضعف فتواضع لمن دونه فالعظماء والكبراء بلا استثناء كلهم متواضعون لأنهم يعرفون سر عظمتهم هو تواضعهم الذي حببهم إلى قلوب الناس فأحبوهم وعظموهم.وإذا كان الكبر مذموماً في حق السراة والكبراء لأنَّ هؤلاء إذا غاب إيمانهم وبعدوا عن الله ورأوا صولتهم ودولتهم وأملاكهم وجاههم فتعاظموا فقد ذمهم الله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إذاً ما بال الذين لا يملكون شيئا من المجد ولا الجاه يتكبرون وهم يعرفون مغبة الكبر وعاقبته هذا وإذا كانوا من طلبة العلم أو من حملة ((الدال)) فماذا نقول من المشاهد الكثيرة التي مرَّت عليَّ لم أكن أعرف سماحة شيخنا الشيخ عبدالله بن حميد رحمه الله ولأول مرة أزوره في مكتبه حين كان الرئيس العام على الإشراف على الحرمين الشريفين فلما دخلت وسلمت رأيت رجلاً تعلوه السكينة والوقار فسلمت عليه وقبَّلت رأسه فرد عليَّ وقربني وكنت طالباً في المعهد العلمي آنذاك وناقشني في الفقه وفي النحو وطلب مني إعراب اسمي ثم دخل رجل كأنه يبتسم هين ليِّن فقال سماحته هذا الشيخ محمد بن سبيل فسلمت عليه وقبلَّت رأسه ثم أعطاني مجموعة من الكتب غرتها كشاف القناع والمحرر في فقه السادة الحنابلة وكتاب غاية الأماني في الرد على النبهاني وخرجت وأنا فرح ومزهو حيث وجدت من استقبلني وأخذ بخاطري ولكن سماحته لم يعطني منسكه مع أن المنسك يوزع مجاناً وعلمت بأنَّ هذا من تواضع الشيخ وهضمه نفسه، ولكني أخذت المنسك من الذين يوزعون في الحرم والمشاعر. بعدها توثقت صلتي بسماحته رحمه الله رحمة واسعة.
الصورة الثانية:
بعد تخرجي في كلية الشريعة في الرياض عملت في دار الإفتاء آنذاك وكنت في مكة المكرمة وفي التوعية الإسلامية قبل أن تكون إدارة مستقلة في مكة المكرمة حين كان يكلف بأمانتها الشيخ الفاضل عبدالله بن إبراهيم الفنتوخ وقد كان لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله موعد لقاء مع المشايخ وكنا نترقب وصول سماحته فخرجت على الباب أترقب وإذا بي أرى سماحته مع السائق فبادرت وسلمت عليه وقبلت رأسه وأخذت بيده أنظر كيف جاء هذا الشيخ بسكينة وهدوء بلا موكب ولا إزعاج ولا استقبال فما كان من المشايخ إلاَّ أن هبوا مسرعين لاستقبال سماحته والسلام عليه إنها صورة مشرفة صورة المسلمين وعلماء المسلمين نعم يجب على العالم التواضع لأنه قدوة ويجب علينا احترامه وإجلاله.
أمَّا إذا تكبر العالم فسوف يكون علمه وبالاً عليه وعلى الناس وتكون فيه صفة من صفات إبليس.
ومرت الأيام وزار الأحساء معالي وفضيلة عضو هيئة كبار العلماء الشيخ الدكتور سعد بن ناصر الشثري ولم يسبق لي أن التقيت به ولكني قرأت وسمعت من مشايخي الكثير عن جده (الشيخ أبو حبيب) فإنه معروف بمساعيه الحميدة في الإصلاح وتسكين الفتن. رحمه الله وأعرف والده سلمه الله كما يعرفه غيري أقول لم أكن أعرف معاليه ولم يسبق أن التقيت به وكان في طريقه إلى منبر جامع الشيخ ناصر بن زرعه فسلمت عليه ولكنه فاجأني بسلام لم أعتد عليه فقد والله أخجلني بتواضعه نعم أخجلني بتواضعه الذي لا أستطيع أن أبوح به حتى لا أتهم بالغرور والكبر والناس يرون هذا المشهد من التواضع بعدها سالت دمعتي على خدي أولاً لتواضع هذا الرجل السري العظيم في قومه العظيم في قبيلته العظيم في علمه ومركزه وتواضعه لشخصي الضعيف فكنت أقول في نفسي يا ستار استر فالناس ليس لهم مني إلاَّ الظاهر ولكني بعد الصلاة أردت أن أرد عليه بعض الشيء فلم أستطع إلاَّ أن تغافلته وقبلت يده فاستنكر الشيخ هذا الصنيع مني فقلت له أنت وضعتني في موقف لا أحسد عليه لم تمكني من تقبيل رأسك ووضعتني في موضع لا أستحقه بل جعلني أنكر نفسي وكان مرافقاً له ويقود السيارة رجل أضعت اسمه ولكنه من أسرة الجنوبي فما كان من معاليه إلاَّ أن أمر ابنه النجيب ناصراً بأن يقود السيارة وأركبني معاليه بجانبه وركب السائق الجنوبي مع ابني عبدالرحمن وخلال هذه الفترة حكى الأخ الجنوبي لابني عبدالرحمن صوراً من تواضع معاليه تستحق الوقوف عليها وتأملها نعم هي غريبة في هذا العصر ولكن لو خليت خربت.
فقلت هذه هي حياة سلفنا الصالح وهكذا هي أخلاق العلماء الصادقين الذين يتأثرون ويؤثرون
قال تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون))

ولكن إذا عدت وجدت الساحة مليئة بأرباع علماء وبأشباه علماء اللهم لأنهم يحملون شهادة شرعية عليا لا يدرى كيف حاز عليها أولئك إذا أردا أحدهم القيام بمحاضرة أو السفر إلى مدينة لإلقاء محاضرة فتجد هذا الشيخ يتحول من شيخ إلى سلطان له حاشيته ترتب المواعيد وحاشية ترتب الاستقبال وحاشية تهيئ الناس للانتظار ثم يأتي في موكب سلطاني في أفخم سيارة وحذاء فاخرة وجوال ماركة ثم إذا وصل بقي نصف ساعة في السيارة يرتب بشته وغترته فإذا نزل طلب من الناس تعظيمه وتقديم الولاء والطاعة له فإذا رقى المنبر وإذا بالفاجعة المستمعون فقراء مساكين فيخدعون حيث لا يرون السكينة والوقار ولا يرون التواضع فكأنه أتى ليغيظهم أو ليكسر قلوبهم إذا كان زري بشته بعرض أربعة أصابع وأكثر ثم إذا جلس معهم بدأ نحن قلنا ونحن رأينا ونحن اقترحنا وسوف نقترح ثم ينصرف إلى خاصته يتحدثون عن المخططات والارضين وأسعارها وأنه اشترى المخطط الفلاني والفلاني وأنه بنى فلته بهذا مليون وتجده دائماً يتحدث مزهواً معجباً بعمارته وعقاراته بالله عليكم أي إصلاح يرجى من هذا بالله عليكم قارنوا .

 

بقلم
خادم أهل العلم

محمد بن عبدالرحمن بن حسين آل إسماعيل

* نشر في جريدة الجزيرة الاربعاء 16 شعبان 1428   العدد  12753
http://www.al-jazirah.com/86975/rj7d.htm