وللعلم ظرف و ماعون


وللعلم ظرف و ماعون


 

 العلم الشرعي اشرف العلوم والعلماء ورثة الأنبياء والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر ومنزلة العلم ليس القراء بحاجة إلى ذكر أدلتها فهي معروفة لدى الجميع.

ولكن السؤال هل كل من فكر أن يكون عالماً صار عالماً وهل كل من أراد أن يكون معلماً صار معلماً وشيخاً وفتح حلقته واستقطب الطلاب ليأخذوا عنه وهل لهذا انعكاس على العلم وأهله وعلى الناس في حياتهم وهل كان الناس في السابق كل من أحس أن عنده رغبة فتح حلقة من تلقاء نفسه وهل كل يؤخذ عنه وهل كل من انتظم في الحلقة مهيئً ليكون من حملة العلم الشريف؟

هذه كلها أسئلة مهمة تستحق الإجابة خاصة في عصرنا هذا الذي اختلط فيه الحابل بالنابل أقول: لو أنَّ كل من أراد أن يكون معلماً صدر نفسه ولو أن كل من أراد أن يكون طالب علم جلس للأخذ عنه فهذا ليس عند متقدمي العلماء.

فالإمام مالك رضي الله عنه ما جلس في المسجد النبوي الشريف حتى أجازه أربعون محنكا كناية عن أنَّ هؤلاء العلماء بلغوا مرتبة من العلم أهلتهم لأن يكونوا ثقة من حقهم ترشيح من يستحق الترشيح حتى لا يكون العلم مرتعاً وحمى مباحاً كل يدعيه فيأتي علم لا أب له ولا أم ولا نسب كما ورد في الحديث الشريف ((أن يتخذ الناس علماء جهالاً يفتون يغير علم فيضلون ويضلون)).

وكان من عادة العرب أن تكون العمامة محنكة ولها ذؤوابة حيث يلف طرفها من تحت الحنك كما هي عمائم علماء الحرمين سابقاً. فهذا العالم الذي رشح للجلوس لتمسكه بالسنة امتاز مجلسه بالوقار والرزانة حتى أنَّ طلبة العلم يشدون الرواحل إليه لا من أجل العلم بل من أجل السمت والوقار والأخلاق النبوية الشريفة لأنه مرب قبل أن يكون معلماً بل يشدون الرواحل إلى العالم وقد تمضى أيام وهم ملازمون له لا يسألونه عن مسألة لا بل يرون هديه وسلوكه في قيامه وجلوسه ومشيته والتفاته وفي تعامله وفي شأنه كله لأنَّ العلم تظهر آثاره على العالم الرباني ويعرف بالهدوء والسكينة والوقار لا بالعجلة والطيش والكبر والحسد وتتبع أخبار الناس ويعرف بصفحه وعفوه وإحسانه الظن في الناس فلا يزكي نفسه أو يطبع على بابه لوحة بيت الشيخ فلان ويحرص على الفائدة من الكبير ومن الصغير ويتأول للمخالفين ويبحث لهم عن معاذير ويكثر الثناء على سلف هذه الأمة وعلى من تقدمه ولا يتنقص العلماء المتقدمين ولا يحقر فقهاء المذاهب فإنَّ ذلك زيغ وضلال لا يسلكه إلاَّ الحمقى والجهال وأشباه الرجال.

فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه: لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم.

فيفترض في هذا الشيخ المتصدر الصدق والأمانة والورع والرزانة والوقار والهدوء قليل الحركة قليل الالتفات يجتهد قدر استطاعته في الإطلاع على الخلاف حتى لا يسرع إلى الإنكار لأنه من اتسع علمه قل إنكاره ولا يزكي نفسه وأن يحرص على فهم حال السلف الصالح وأن يتصف بالشفقة والحلم وأن لا يغتر بما وصل إليه من العلم بالطعن في الآخرين وفي سلف الأمة

قل لمن يدعي في العلم فلسفة

                        عرفت شيئاً وغابت عنك أشياء

وأن ينهى عن الغيبة والنميمة وألاَّ يخلط بين النميمة والشهادة فقد رأيت فشوَّ النميمة بين كثير ممن ينتسب إلى العلم ويعتمدها على أنها شهادة فالنميمة خصلة ذميمة وعيب في المنتسب إلى العلم تسقط عدالته.

فكم من مدع للعلم إعجابه بما علم جعله يقلل من شأن الآخرين بل فحول العلماء فتزكية النفس لها طرق شتى مثل نسأل الله السلامة،و عفى الله عنا وعنه ودعوا ذكره يا إخوان يكفيه ما هو فيه وأدعوا لأخيكم ، ولقد و الله تأثرت وبكيت حين علمت حاله  الخ.

أو إذا جاءه من يطلب تزكيته كتب هكذا نحسبه والله حسيبه ولا نزكي على الله أحداً فهذه ظاهرها طيب ولكنها تحتمل الطعن وتزكية النفس ولكن الأسلم أن يقول: نِعْمَ الرجل ولا أعلم عنه إلاَّ كل خير.

ولا يتعجل بإسقاط أقوال الأئمة المعتبرين والعلماء الثقات لثقته بكلام أحد المعاصرين بل وغلوه فيه فعليه الرجوع إلى قول الثقات المتقدمين ويرى حججهم وأدلتهم ولمعالي الشيخ صالح بن عبدالله بن حميد رسالة في الخلاف والاختلاف يمكن الرجوع إليها فإنها نافعة في بابها ويمكن الرجوع إلى رسالة الإمام أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه إلى تلميذه يوسف بن خالد السمتي ينصحه فيها يوجهه كيف يتعامل مع الموافق والمخالف وكتاب الدكتور مصطفى الخن أثر الاختلافات الأصولية في الاختلاف الفقهي والمجمع الفقهي له نشرة أصدرها في مجلته فنيل الأوطار وسبل السلام وفتح الباري كلها تحكي خلاف العلماء وكل يرى أن قوله أرجح فأين أنت منهم فهل وصلت إلى مستواهم فإن قلت بأنك ترجح قول الشوكاني فأنت إذاً مقلد للمتأخرين وتركت من أجمعت الأمة على إمامتهم. وان تماديت وتطاولت فانظر إلى من تدعي الانتساب إليهم  فقد قال سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله مفتي المملكة ورئيس قضاتها إجابة لسؤال وجه إليه: خطأ مشهور ولا صواب مهجور

حين قال السائل اطلعت على القول الراجح فهل أقول به ثم قال هل أعمل به في خاصة نفسي قال: لا

وللعلم أهله وأبوابه فلا يمكن بين عشية وضحاها أن يجلس حدث في أحد المساجد ليلغي كل الموازين والمعايير وفتاوى السلف ومنهجيتهم بلا حجة ولا برهان فهذا مع كونه جهلاً فهو اعتداء وجريمة في حق العلم وأهله فعلى الشيخ الناصح أن يؤصل طلبته وألاَّ يتخذ له طريقاً تشذ عن السلف في قبول الحديث ورده ولا يرى أنه أعلم من الحافظ ابن حجر رحمه الله فإن كتب التخريج وعلم الرجال كلها مطبوعة مثل نصب الراية للزيلعي وتهذيب التهذيب لابن حجر ولسان الميزان لابن حجر وتنزيه الشريعة لابن عراق الكناني والمجموع شرح المهذب للنووي وتنقيح التحقيق والمقاصد الحسنة وكشف الخفاء ومزيل الالباس والفوائد المجموعة والقواعد النورانية لابن تيمية وشرح علل الحديث لابن رجب وكتب الإمام السخاوي رحمه الله والموضوعات الكبرى والصغرى لملاء علي القاري رحمه الله.

أمَّا أن تعجب بأحد المعاصرين وتقتصر على ما عنده دون إطلاع عمَّا عند غيره وأخذه قدوة تقبل أقواله ويرد على غيره ولو كانوا سلف الأمة فهذا والله هو التقليد الأعمى الذي تفر منه مهما ادعيت أنك صاحب دليل ولو كان هذا ناصحاً لقال لك ابدأ كما بدأنا وإن كنت باحثاً فلا تقلدنا فابحث كما بحثنا وإن كنت مقلداّ فقلد من اتفقت الأمة على تقليدهم أما طريقتك هذه فشاذة وكلها مفسدة وليس فيها مصلحة فاتق الله في نفسك ولا تضلل الشباب فدع عنك الغرور وتعرَّف على نفسك بالتواضع ودع منهجك الذي يهمش علماء الأمة ولا تجلس بغرورك وجهلك بنفسك في حلقتك أو في تلفزيونك ترجح وتضلل وتسفه لتجعل من نفسك حجة الله في أرضه باسم الدليل الذي أنت عنه بمعزل.

ولا تبدأ من حيث انتهى كبار العلماء فهذا حماقة وجهل ولكن ابدأ كما بدأوا واعتبر بجمهور علماء الأمة وانتسابهم إلى المذاهب الأربعة. وليس كل من درس وجلس في حلقات العلماء عالماً.

واجعل لك حزباً من القرآن الكريم يُقرأ بتدبر وتستعرض شخصيتك من خلاله وأقرأه بحزن بقراءة بلدك لا بألحان العجم أو بما يسمى النشيد ليس فيه بكاء ولا تباكي والحذر الحذر من تزكية النفس وإياك والغرور وعليك بالإتباع وترك الابتداع وعليك بكتب الرقائق وأخبار السلف فأقرأ في كتب الزهد والورع للإمام أحمد وابن قدامة وكتاب التوابين لابن قدامة ولطائف المعارف لابن رجب والحلية لأبي نعيم وصفوة الصفوة لابن الجوزي وتاجها كتاب رياض الصالحين للنووي والترغيب والترهيب للمنذري وموعظة المؤمنين لجمال الدين القاسمي ومختصر منهاج القاصدين لابن الجوزي فإنها ترقق الطبع وتلين القلب وكتب ابن الجوزي في الوعظ والمهذب من الإحياء للشيخ صالح أحمد الشامي وكتب الشيخ محمد سيد عفاني سكب العبرات،ورهبان في الليل فرسان في النهار وغيرها فأخبار الماضين كلها عبر من اعتبر وكتاب الله هو الأصل والفيصل لمن تدبر وأسسها أكل الحلال وسلامة القلب من الحقد والكره وحب الفقراء والتقرب إلى الله بخدمتهم.

لماذا أقول لك ذلك لأنَّك كما ترى الحال من كثير ممن ينتسب إلى العلم حيث ظهر الجفاء والشدة والضعف والصراع بين العلماء على الدنيا والتهالك عليها ظهر ذلك جلياً في احتقار الفقراء والتعالي عليهم فأصبح العلماء ينافسون التجار ويتحدثون بلسانهم ولهجتهم فأصبح العلماء يعرفون العقارات والمساهمات والمرابحات أكثر من غيرهم حتى صاروا دلالين وعقاريين لماذا حتى لا يقال عنهم بأنهم فقراء مع أنهم يعرفون أنَّ الفقر فقران فقر اختياري وفقر اضطراري وسلف هذه الأمة والقدوة منهم فقرهم فقر اختياري وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم أحيني مسكيناً توفني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين) واختار على الملك أن يكون عبداً نبياً ومع هذا فقد كانت تأتيه الدنيا فينفقها إنفاق من لا يخشى الفاقة وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تشتهي خادمتها العنب فتشتريه عائشة ثم يأتي سائل فقير فتعطيه السائل والأنصار نزل فيهم قوله تعالى ((ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)).

وأعرف من تجالس ولا تسقط عالماً لكونك وقفت على خطأ في مسألة خصوصاً إذا عرف هذا العالم بأنه من العلماء المعتبرين وإياك والتشنيع عليه فليس هذا من شأن العلماء وإن كانت محل اجتهاد فله اجتهاده ولا تتبعه فيها إذا شذ فيها عن علماء الأمة ولا تسقط كتبه ومؤلفاته من أجل زلة فإنك إن نهجت هذا المنهج فلن يبق لنا شيء من العلماء فلو أسقط كل عالم بخطأ لما بقي لنا شيء ولزالت الثقة بعلماء الأمة والعلماء يكمل بعضهم بعضاً واحذر كل الحذران أن تنتقص كتب الحافظ ابن حجر فتح الباري وغيره فإن ابن حجر انتهى إليه علم الحديث ويستحق لقب أمير المؤمنين في الحديث فهو آخر المحققين قام بخدمة السنة هو والإمام العيني الحنفي صاحب عمدة القاري فإنَّ المحققين من علماء الأمة اتفقوا على أنَّ الغلط إذا وقع من العالم الكبير فإنه يعد من الأقوال الميتة ولا ينسب إليه واقرأ كتاب طريق الهجرتين لابن القيم فسوف تراه يتعذر عن رجال أسيء فيهم الظن لكلمات نسبت إليهم ورحم الله القائل

وإن سمعت قيلا

            يحتمل التأويلا

فأحمله خير محملِ

            فعل الرجال الكملِ

وإن ترد عتابهمْ

            فلا تسئ خطابهمْ

فالعتب بالمشافههْ

            ضرب من المسافههْ

وأنصح المنتسب إلى العلم أن يحرص على أن يكون له سلف في كل ما يقول.

فالعلم بحر تعطيه كلك يعطيك بعضه فالفقهاء يسروا عليك السبل وذللوا لك الصعاب وبحثوا قضايا الفروع والأصول بإخلاص ونقاء سريرة وحفظ وذكاء و زكاء ونور بصيرة فما عليك إلاَّ أن تجلس على موائدهم ((أي كتبهم)) وسوف ترى العجب العجاب وليست حالهم كحالك وحال أمثالك ممن ليس لهم سن ولا تجربة ولا حفظ ولا فهم ولا جثي على الركب عند العلماء فإنهم لا يتعجلون في الإجابة كما تتعجل أنت بل يود أحدهم لو كان كفاه غيره فإنهم سهروا الليالي بين الكتاب والسنة وفهم السلف للمسألة ويحرصون كل الحرص أن يكتفوا بمن سبقهم.

كتبه خادم أهل العلم

محمد بن عبدالرحمن بن حسين آل إسماعيل